
رحلة مجهولة حملت طموحات متنوعة، فبينما كان البعض يبحث عن تأمين مستقبل طفلهم المولود حديثاً، كان آخرون يسعون للحصول على فرصة عمل تساعدهم على الزواج، وشاب آخر كان يفكر في رحلة العمرة التي يخطط لإهدائها لوالدته بعد استلام راتبه الأول، لكن الأمور لم تسر كما هو متوقع، إذ سرعان ما تحولت الأحلام إلى كوابيس مع أمواج متلاطمة وأصوات استغاثة، ليصبح المشهد فوضوياً، حيث يسعى الجميع للنجاة، بينما بعضهم يعود محمولاً في نعشه، في حين غاب آخرون في ظلمات البحر.
في مركز البداري، استقبلت أسر ضحايا الهجرة غير الشرعية في أسيوط جثامين أبنائهم في مشهد مؤلم يعبر عن حال الكثير منهم، انتقل الأهالي مع أسر الضحايا لتشييع الجثامين، بينما كثف رواد السوشيال ميديا نشر صور المفقودين بحثاً عن أية أخبار قد تطمئن قلوب أسرهم، وبتعبيرات شاحبة تعكس الصدمة والذهول، كانت الأسر حاضرة لتشييع جثمان أحد الضحايا.
بجانب قبر أحدهم، جلست سيدة تروي قصتها مع نجلها، كان حديثها موجهاً له فقط، فقالت: “قولتلك رب هنا رب هناك خليك جنبي، مسمعتش كلامي، دلوقتي أنت مبسوط بحرقة قلبي عليك كده”، وتابعت: “أمك هانت عليك تسيبها وتمشي، معلش قضاء ربنا وأنا راضية به”، ثم توجهت برسالة خاصة للحاضرين قائلة: “خذوا عبرة من اللي حصل لابني، بلاش ولادكوا يكونوا كده، قلبي محروق والعالم بيا، ربي مش عايزة أشوف المشهد ده تاني في حد”.
واستكملت قائلة: “ابني عندك يا رب ارحمه، يا رب وسامحه، أنا سامحتك يا بني، ربي يصبر قلبي على الفراق”، مما أدى لانفجار بكاء الحاضرين بعد حديثها، وبدأ البعض في توجيه رسائل للشباب قائلاً: “بلاش تسافروا وتسيبوا بلدكوا، شباب في عمر الزهور راحوا، مش عايزين نشيّع حد تاني”.
وفي جنازة أخرى، شاركت أسر ضحايا الهجرة غير الشرعية في أسيوط، كانت هذه المرة لشاب متزوج حديثاً، واكتفت أسرته برسالة واحدة جاءت على لسان الزوجة: “قتلت فرحتي بيك، ملحقتش أتهني معاك، كنا ناكلها بدقة بس تخليك معايا”، وفضلت تلك الزوجة الصمت خلال تشييع جثمان زوجها، لتنتهي أسر الضحايا من تشييع الجثامين، بينما يراقب بعضهم أنباء المفقودين، على أمل ألا يكون هناك موعد مع جنازة أخرى لأضحية جديدة من ضحايا غرق مركب الهجرة غير الشرعية في سواحل ليبيا.