
في الشوارع وأمام المساجد، وكذلك في المولات التجارية ومحلات الهدايا، لم يعد مشهد “السبحة” مقتصرًا على خرزات من الخشب أو الأحجار الكريمة، بل ظهرت أشكال جديدة بحجم الإصبع أو أصغر، تُعرض وسط لافتات براقة مكتوب عليها: “سبحة إلكترونية، عداد ذِكر ذكي”، فهل نحن في عصر الذِّكر الرقمي؟
تتباين الآراء حول السبحة الإلكترونية بين الإعجاب والرفض.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه في الشارع المصري هو: هل هذا تطور طبيعي لأدوات العبادة، أم أنه مجرد موضة عابرة تروج للاستهلاك وتفقد المضمون روحه؟ بين مؤيدين يرونها اختراعًا يتماشى مع العصر، ومعارضين يعتبرونها بدعة تفتقر للروح، رصدت “إقرأ نيوز” آراء الشباب وأصحاب المحلات وكبار السن الذين لا يزالون متمسكين بـ”السبحة التقليدية” ذات الطقطقة المعروفة.
خلال جولة في شوارع الأزهر والحسين ووسط القاهرة، قال “عبد الرحمن”، صاحب محل للهدايا الإسلامية: “في الماضي كان الناس يطلبون سبحة كوك أو كهرمان، أما اليوم فيطلبون سبحة بعداد تعمل بزر مثل الريموت الصغير، كل ضغطة تعدّ ذِكر، وهناك نوع يحتوي على شاشة رقمية وساعة، الشباب والبنات يحبونها، وكأنها إكسسوار ديني حديث”.
تتباين الآراء حول السبحة الإلكترونية بين الإعجاب والرفض.
وأضاف: “هناك من يشتريها كهدايا في رمضان أو حتى للأمهات، لأنها خفيفة وسهلة الاستخدام، وقد زادت المبيعات بنسبة 60% منذ بداية هذا العام، خاصة في المواسم الدينية”.
أصوات الشارع.. بين الإعجاب والرفض.
في ميدان التحرير، التقينا بشاب يستخدم السبحة الإلكترونية، اسمه “أحمد”، 26 سنة، موظف، وأوضح: “أنا لا أسبح كثيرًا، لكن عندما جلبت هذه السبحة بدأت أحاول كل يوم، الأمر أصبح سهلًا، ضغطة واحدة وأنا في المواصلات أو في العمل، تجعلني أعدّ وردي دون أن أنسى”، لكن “الحاجة نبوية”، ستينية من سكان حي السيدة زينب، رفضت بشدة هذه الموضة قائلة: “يا ابني الذكر لا يُعمل بكبس زرار، الروح في الخشوع، وليس في العداد، لدي سبحة منذ 20 سنة، وكل حبة فيها تمثل ذِكرًا أدعو به وأنا مستحضرة ربنا”.
التجارة تعرف طريقها.
على منصة التسوق الإلكتروني، تُباع السبحة الإلكترونية بأسعار تتراوح بين 20 و200 جنيه، حسب الماركة والوظائف (عداد، ساعة، منبه ذكر)، وتنتشر الإعلانات على مواقع التواصل الاجتماعي بشكل لافت بطرق متنوعة.
تتباين الآراء حول السبحة الإلكترونية بين الإعجاب والرفض.
سألنا “هالة”، مسؤولة مبيعات في محل إكسسوارات بوسط البلد، فقالت: “المنتج الأكثر مبيعًا لدينا في فئة الإكسسوارات الدينية هو السبحة الإلكترونية، خاصة في المناسبات الدينية، ونقوم بعمل فيديوهات دعائية تظهر شابًا أو فتاة يستخدمانها وهما يبتسمان، لارتباطها في ذهن المشتري بالراحة النفسية والتقوى”.
بينما أوضح أبو اليسر، 28 سنة، باحث في علم النفس: “الناس تبحث عن أدوات تعينها على التقرب من الله وسط زحام الحياة، إذا كانت السبحة الإلكترونية تُسهل الالتزام والمداومة على الذكر، فهي جيدة نفسيًا، لكن هناك فرق بين وسيلة للتذكير، وبديل عن الجوهر، التكنولوجيا تساعد لكنها لا تصنع الإيمان”.
نشأة السبح.
تشير المصادر التاريخية إلى أن السبح بدأت في العصر الإسلامي الأول بأشكال بدائية، كالحصى والنوى، ثم تطورت بصناعة دقيقة من الكهرمان والعقيق والزيتون، وأحيانًا من خشب السبح الإفريقي، وكانت تُهدى للخلفاء والعلماء، وهناك روايات عن الصحابة رضي الله عنهم أنهم استخدموا الحصى لتعداد الذكر، مما يُعتبر أصلًا لفكرة “العد”.
من محل صيانة الهواتف..
إلى البيع في المساجد!
مصطفى بدر، شاب ثلاثيني، كان يعمل في صيانة الهواتف المحمولة، لكنه تحول لبيع السبح الإلكترونية بعدما رأى أرباحها الكبيرة: “بدأت أشتريها بالجملة من الصين، وأبيعها عند المساجد يوم الجمعة، يمكنني كسب 500 جنيه في الجمعة الواحدة، لأن الناس تحب الشراء بعد الصلاة، وهناك أنواع كثيرة وكل فترة يظهر نوع جديد”.
السبحة عند الصوفي.. روح مختلفة.
على هامش لقائنا بأحد مريدي الطرق الصوفية في مسجد الإمام الحسين، قال الشيخ أحمد من الطريقة الحبيبية: “نرى الذكر سلوكًا قلبيًا وجسديًا، كل حبة من السبحة تتفاعل وتسبح كما ورد، أما السبحة التي تحتوي على أزرار، إن كانت بغرض التظاهر أو الموضة، فهي لا تخدم السالك إلى الله، بل تُربكه، الذكر تربية، لا تكنولوجيا فقط”.
رأي الشباب بين القبول والتجريب.
في شارع طلعت حرب بوسط البلد، قابلنا مجموعة من الشباب يمسكون بأنواع مختلفة من السبح، بعضهم يفضل الإلكترونية، وآخرون يرفضونها، “نهى”، طالبة، 21 سنة، قالت: “أنا أحب أن أسبح وأنا ماشية أو أنتظر المحاضرة، ليس لدي سبحة دائمًا، لكن هذه يمكن أن تُعلق في الشنطة وشكلها أنيق أيضًا”، بينما أوضح “مروان شعبان”، 24 سنة: “جربتها، لكن شعرت أنني أضغط الزر دون أن أعيش المعنى الذي أقوله، فعدت إلى السبحة العادية، أشعر فيها بلمسة روحانية أكثر”.
نظرًا للجدل المستمر على مواقع التواصل، رصدنا عشرات التعليقات على منشور لأحد الدعاة حول السبحة الإلكترونية: “بدعة العصر الحديث”، “النية أهم من الأداة”، “طالما تذكر ربنا، فهو جيد”، بينما نشر آخر صورة له ممسكًا بسبحة إلكترونية وكتب: “حتى التكنولوجيا قالت سبحان الله”.
في ختام جولتنا، تبقى الأسئلة مفتوحة: هل ستظل السبحة الإلكترونية موضة عابرة مثل غيرها، أم ستُكرَّس كأداة مقبولة للذكر في الزمن الرقمي؟ هل تُعين الإنسان فعلاً على عبادة الله، أم تُلهيه عن جوهر العبادة الحقيقية؟