
في أعماق البحر الأحمر، حيث لا تُسمع الأصوات، تعيش كائنات غامضة تُعرف بالإسفنجيات، ورغم صمتها، تلعب دورًا حيويًا في الحفاظ على صحة البحر، وكذلك في مستقبل البشرية، فبين الشعاب المرجانية وفي تجاويف البحر الداكنة، يحتل الإسفنج مكانة خفية ولكنها أساسية، حيث يساهم في توازن النظام البيئي، ويعد بمستقبل واعد في مجالات البحث العلمي والعلاج، خاصة ضد الأمراض المستعصية مثل السرطان.
الدكتور محمد عبد الغني، الباحث البيئي المتخصص في البيئة البحرية والشعاب المرجانية، أشار إلى أن السنوات الأخيرة شهدت تقدمًا ملحوظًا في فهم الدور الحيوي للإسفنج، ليس فقط ككائن بيئي، بل كمصدر بيولوجي غني، قادر على إنتاج مركبات كيميائية ذات فعالية دوائية كبيرة، خاصة في مقاومة سرطان الثدي وبعض الفيروسات، وأوضح أن الإسفنجيات تتمتع بقدرة مذهلة على تصفية المياه، حيث يمكن للإسفنج الواحد ترشيح ما يصل إلى 100 لتر من الماء يوميًا لكل سنتيمتر مكعب من حجمه، مما يسهم في إزالة البكتيريا والجزيئات العضوية، وتحسين صفاء المياه، وفي بعض الشعاب المرجانية الاستوائية، يقوم الإسفنج بتصفية حوالي 90% من عمود الماء يوميًا، مما يعد دفاعًا طبيعيًا ضد التلوث البحري، ويعزز استقرار البيئة المائية وجودتها.
كما أضاف عبد الغني أن دور الإسفنج لا يقتصر على الفلترة، بل يمتد ليكون محركًا لتدوير العناصر الغذائية، حيث يقوم بتحويل المواد العضوية المذابة إلى جزيئات قابلة للاستهلاك من قبل الكائنات الأخرى، وتظهر الدراسات أن بعض أنواع الإسفنج يمكنها معالجة ما يصل إلى 10 أضعاف كمية المواد العضوية مقارنة بالنظام البيئي للشعاب المرجانية بأكمله، كما أن تركيب الإسفنج الداخلي المليء بالتجاويف يجعله موئلًا حيويًا لعشرات الأنواع البحرية الدقيقة والكبرى، وقد تشير الدراسات الحديثة إلى أن الإسفنج يمكن أن يستضيف ما يصل إلى 1200 نوع من الكائنات، وبعضها لا يوجد إلا داخل حدائق الإسفنج، وفي بعض البيئات، تسكن الكائنات المتعايشة داخل الإسفنج حتى 50% من حجمه، مما يعزز من قيمته كمرکز حيوي للتنوع البيولوجي تحت سطح البحر.
وتابع عبد الغني أن الإسفنج يلعب دورين متناقضين في الوقت ذاته، فهو يساهم في حماية الشعاب المرجانية، حيث أظهرت الأبحاث في البحر الأحمر أن المناطق ذات الكثافة العالية من الإسفنج تسجل انخفاضًا بنسبة 30% في انتشار أمراض المرجان، وفي الوقت نفسه، تقوم بعض أنواعه مثل Cliona بتآكل كربونات الكالسيوم، مما يسبب تآكلًا بيولوجيًا يمكن أن يصل إلى 10 كجم لكل متر مربع سنويًا.
وكشف عبد الغني أن الإسفنج يمثل جزءًا من غذاء كائنات بحرية هامة مثل سلحفاة منقار الصقر، التي تعتمد عليه بنسبة تصل إلى 95% في بعض المناطق، لكنه أيضًا كنز دوائي لا يقل أهمية، حيث يعتمد أكثر من 30% من الأدوية البحرية تحت التطوير على مركبات مستخرجة من الإسفنج، وبعضها أثبت فعاليته ضد أنواع من السرطان، والفيروسات، والالتهابات، كما يُستخدم في تقنيات الاستزراع البحري لتحسين جودة المياه، وتجري تجارب ناجحة لزراعته لاستعادة الشعاب المرجانية، بنسب نجاح تصل إلى 70%.
تُعتبر الإسفنجيات من أولى الكائنات التي تتأثر بالتغيرات البيئية، فارتفاع درجات الحرارة، وزيادة الحموضة، وتراكم الملوثات، كلها تهدد وجودها، وفي الحاجز المرجاني العظيم، انخفضت الكتلة الحيوية للإسفنج بنسبة 20% بعد حادثة تبييض جماعية، وأظهرت دراسات تراكم ملوثات خطرة مثل المعادن الثقيلة والميكروبلاستيك داخل أنسجة الإسفنج، أحيانًا بتركيزات تصل إلى 10 أضعاف تركيزها في المياه المحيطة، وتكشف كل هذه الحقائق عن أهمية الإسفنج في الحفاظ على صحة البحر الأحمر، وفي رسم مستقبل اقتصادي أكثر استدامة، فحمايته ليست ترفًا بيئيًا، بل ضرورة استراتيجية، تضمن توازن النظم البيئية، وتحمي الثروات السمكية، وتفتح الباب أمام صناعة دوائية بحرية قادمة.
وطالب عبد الغني بأن ننظر إلى الإسفنج، ليس ككائن هامشي، بل كأحد أعمدة الحياة البحرية، وركيزة من ركائز الاقتصاد الأزرق الذي تحتاجه مصر لمستقبل بيئي وصحي واقتصادي أكثر استقرارًا، حيث تتوفر المراجع العلمية الداعمة وفق أحدث ما نشر في الدوريات الدولية المعنية بعلم الأحياء البحرية والكيمياء البيولوجية.