من غزة إلى مصر: قصة نجاح ‘نسمة’ التي تشرق بالأمل وسط الركام

من غزة إلى مصر: قصة نجاح ‘نسمة’ التي تشرق بالأمل وسط الركام

عندما يصبح الوطن مجرد حقيبة، وتكتظ الذاكرة بالمطارات بدلاً من المدارس، يبدو الحديث عن النجاح كأنه حلم بعيد المنال، لكن نسمة ياسين، الطالبة الفلسطينية التي جاءت من قلب الحرب، أثبتت أن الأحلام يمكن أن تصمد وتزدهر حتى في أصعب الظروف.

الرحيل الأول.. بداية التغيير

في لحظة لم تكن تختار توقيتها، وجدت نسمة نفسها مضطرة لمغادرة غزة، لم تكن مجرد مغادرة عابرة، بل كانت قطيعة مؤلمة مع كل ما اعتادت عليه: جدران البيت، زقزقة العصافير، نداءات الجيران، دفء الأماكن، ووجوه الأهل، كانت الحرب في ذلك الوقت مستمرة بلا هوادة، ومع كل غارة كانت فكرة الخروج تزداد إلحاحًا.

تقول نسمة في حديثها لـ«إقرأ نيوز»: “غادرت غزة وأنا لا أعرف إلى أين بالتحديد، كل ما كنت أعرفه أن المكان لم يعد يحتملنا، وأن الحياة أصبحت ضيقة إلى حد الاختناق.”

كانت البرازيل هي وجهتها الأولى، بلد بعيد لا يشبه غزة في شيء، لغة مختلفة ومناخ مختلف ومجتمع لا يعرف الحرب ولا يدرك وجع الغربة، بدأت نسمة خطواتها الأولى نحو التأقلم، لكن الأمر لم يكن سهلاً، فالغربة كما تقول ليست فقط بعدًا جغرافيًا، بل هي أيضًا شعور نفسي.

البرازيل.. بين الانبهار والحنين

في البرازيل، حاولت نسمة مواصلة تعليمها، لكنها واجهت تحديات جديدة كل يوم: اختلاف المناهج، اللغة البرتغالية التي لم تعتد على سماعها، والحنين الذي يتسلل إلى قلبها في كل لحظة، “كنت أستيقظ باكرًا للمدرسة، لكن قلبي كان يسبقني إلى غزة.. كنت أكتب الحروف الجديدة وأفكر في أصدقائي تحت الركام.” تقول نسمة، ورغم صعوبة التعايش، اختارت ألا تسمح للتيه أن يهزمها، بدأت تتعلم اللغة شيئًا فشيئًا، وكونت صداقات ساعدتها على الصمود، لكنها كانت تدرك في قرارة نفسها أن البرازيل مجرد محطة، لا النهاية.

الانتقال إلى مصر.. والبدء من جديد

بعد فترة ليست بالقصيرة، انتقلت نسمة وعائلتها إلى مصر، وهناك بدأت فعليًا مرحلة التوجيهي (الثانوية العامة)، وسط نظام جديد ومناهج مختلفة تمامًا، “شعرت أنني أبدأ من الصفر مرة أخرى، كل شيء كان جديدًا: أسلوب التعليم، طريقة الأسئلة، ضغط الامتحانات، كان عليّ أن أعيد ترتيب نفسي بالكامل.”

في مصر، لم يكن الأمر أسهل، فرغم دفء العلاقات والناس، ظل الشعور بالغربة حاضرًا، كانت نسمة تدرس ووراءها ذكريات الحرب، وصور أقارب وأصدقاء ما زالوا في غزة، بعضهم تحت التراب.

تروي عن إحدى الليالي قبل الامتحانات النهائية: “كنت أذاكر في صمت، وفجأة بكيت، لم يكن بسبب صعوبة المادة، بل بسبب أمي التي كانت تطهو لي في غزة قبل كل امتحان، افتقدت تفاصيل صغيرة، لكنها كانت تمنحني طاقة عجيبة.”

رحلة التوجيهي.. صراع يومي مع الذات

رغم الضغوط النفسية والجسدية، اختارت نسمة ألا تستسلم، وضعت خطة يومية للمذاكرة، خصصت ساعات محددة لكل مادة، وتابعت دروسها عبر منصات إلكترونية، وساعدها أساتذة مصريون عبر الإنترنت وآخرون فلسطينيون عبر مجموعات دعم على “واتساب”، “كنت أبدأ يومي بآية قرآنية ودعاء، وأقنع نفسي أن ما أقوم به ليس مجرد تحصيل علم، بل مقاومة بشكل آخر، كنت أقاوم الألم بالعلم.”.

في أحد الأيام، أصيبت نسمة بنوبة صداع حادة أثناء مراجعة مادة الفيزياء، وتوقفت عن الدراسة ليومين، شعرت بالإحباط، وخافت من ضياع مجهودها، “وقتها قلت لنفسي: يا نسمة، الحرب ما هزمتكش، هتخلي صداع يهزمك؟!”، تستعيد نسمة تلك اللحظة بابتسامة تحمل بعض الألم وبعض الفخر.

يوم النتيجة.. لحظة الانتصار

عندما أُعلنت النتيجة، لم تصدق عيناها الرقم: 93.6%، لم يكن مجرد رقم، بل شهادة على أنها اجتازت الحرب والشتات والخوف واليأس، ووصلت أخيرًا إلى نقطة ضوء، “صرخت وبكيت، تذكرت كل لحظة شعرت فيها أنني وحدي، لكن الحقيقة أن الله كان معي دائمًا.” هكذا احتفلت أسرة «نسمة» الصغيرة بها في مصر، بينما شاركها الأصدقاء التهاني من ثلاث قارات، من غزة والبرازيل والقاهرة، كانت لحظة جماعية، لكنها أيضًا شخصية جدًا.

رسالة أمل لغيري

اليوم، تحلم نسمة بدراسة الطب أو الإعلام، وترغب في أن تُسهم في نقل معاناة الفلسطينيين من منظور إنساني، “أريد أن أقول للعالم إننا لسنا أرقامًا على شاشات الأخبار، نحن أرواح تحلم، وتنجح، وتُحب، وتُصر على الحياة رغم أن الحياة أحيانًا لا تُحبنا.”.

وتضيف: “رسالتي لكل من يمر بظروف صعبة: لا تستسلم، قد تكون بعيدًا عن الوطن، لكنك لست بعيدًا عن الله، ودائمًا، الألم ممكن أن يتحول لبداية.”

“أنا نسمة، صنعت من الغربة هدفًا، ومن الألم أملًا، وكتبت قصة نجاحي وسط الركام.” هكذا تلخص الطالبة الفلسطينية نسمة ياسين رحلتها، ليست فقط رحلة تعليم، بل حكاية بقاء، وإصرار، وإيمان بأن النور سيأتي مهما طال الليل.